[size=24]دخلت حسناء البيت مسرعة ،
فوجدت أمها ترتب الطعام على المائدة ،
فبعد قليل يأتي والدها من العمل متعباً ،
فيأكل ثم يصلي ليرتاح قليلاً
قبل زيارة الجدة ،
فشرعت في مساعدة أمها ،
وأخبرتها
أن معلمتها ذكرت لها قصة
الحلاّبة وابنتها،
فأعجبت
بالبنت ونزاهتها وحسن إيمانها ،
ورغبت أن تكون مثلها
في التزامها آداب هذا
الدين العظيم
والتمسّك بأهدابه
ولم تنتظر أن تطلب أمها
أن تقص عليها قصتها ،
فبدأت تقول :
إن الفاروق عمر رضي الله عنه
خليفة المسلمين
انطلق وخادمُه يعُسّ طرقات المدينة ،
ويتفقد أمور المسلمين ،
فسمع امرأة تقول لابنتها :
يا بنيّة امزقي
( اخلطي وامزجي )
اللبن بالماء
– كي يكثر فيزداد الربح-
فقالت البنت لأمها :
أم تعلمي
أن أمير المؤمنين حذرنا من الغش،
ومنع مزج الحليب بالماء
؟
قالت لها أمها :
وأين منا أمير المؤمنين
؟
ردت البنت قائلة :
إن كان أمير المؤمنين لا يرانا
فربه سبحانه يرانا
أُعجب الفاروق
بدين الفتاة وكريم خُلُقها ،
وأمر صاحبه أن يضع علامة على البيت ،
وقال له :
ايتني بخبر أهل الدار
وفي الصباح
قال خادمه :
إنها امرأة تبيع الحليب وابنتها .
فسأل الخليفة ابنه عاصماً :
هل لك في زوجة صالحة
؟
قال :
نعم . فزوجه منها .
فكانت هذه الزوجة الصالحةُ
جدةََ الخليفة الأموي العادل
عمر بن عبد العزيز.
فرحت الأم بابنتها ، وقبّلتها ،
وقالت:
إنّ السُّحت يا ابنتي لا بركة فيه ،
ويُردي صاحبه في النار ،
والحلال يرفع شأن صاحبه في الدنيا ،
ويهديه إلى الجنة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى لأصحابه
قصة مشابهة لما رويتِ ،
سأقصها عليك الآن
ونحن نرتب الطعام على المائدة
قبل أن يصل والدك .
تعلمين يا حسناء
أن الخمر
لم يكن محرّماً في أول الإسلام ،
ثم بدأت الدائرة تضيق على تناوله
حتى حرّمه الله تعالى
في قوله سبحانه
" يا أيها الذين آمنوا ،
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان ،
فاجتنبوه لعلكم تفلحون ،
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم
العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ،
ويصدكم عن ذكر الله
وعن الصلاة
فهل أنتم منتهون
؟
قالوا :
انتهينا ، يا رب ، انتهينا .
ولعله كان في الأمم السابقة
غير محرّم كذلك .
فقد انطلق
رجل بسفينته في النهر ،
يقف على هذه القرية وتلك القرية ،
وهذا الحي وذاك ،
يبيع الخمر للناس .
وكان غشّاشاً ،
يخلط الخمر بالماء ليزداد بيعه ،
فيزداد ربحه .
وكثير من الناس في أيامنا هذه
يفعل مثله ظنّاً منهم
– وهذا قلة في الدين ،
وضعف في اليقين –
أنهم يسرعون في الثراء ،
فيَشـُوبون الجيد بالرديء ،
او يمزجون المتقاربين في النوع
ليجنوا المال الكثير
بالطرق غير المشروعة ،
فيخسرونه وأضعافه
بطرق لا يشعرون بها ،
فقد تكون المرضَ ،
أو السرقةَ أو الضياعَ أو الإسرافَ
أو النكدَ في الحياة
الذي يطغى على كثرة المال ،
فيفقدُ الإنسانُ الراحة وطعم السعادة
وهذا كلُّه لا يساوي شيئاً
أمام عذاب الله تعالى وغضبه
فما نبت من سحت
فالنار أولى به .
باع الرجل
" الخمر المائيّ" ،
ووضع الدنانير في كيسه ،
وانطلق بسفينته عائداً إلى بيته ،
والسعادة تملأ نفسه ،
والأمل في جمع ثروة كبيرة يراوده .
وبينما هو في أحلامه ،
وقردُه إلى جانبه يقفز هنا وهناك
اختطف القردُ الكيسَ ،
وصعِد به إلى سارية السفينة .
فانخلع قلب التاجر لمصير الكيس ،
فقد يطيح به القرد في الماء ،
فيخسر تجارته
وأحلامه الوردية التي خامرَتْه .
وقد يفتحه ،
فتتساقط بعض الدنانير في الماء ،
ويغيب بعضها في ثنايا الألواح
أيها القرد ؛
أيها القرد؛
بالله عليك انزل .
فلما لم ينزل ناداه :
ارم الكيس إليّ بهدوء ،
ولا تفجعني في مالي
لم يفهم القرد توسّلَه ،
بل تمكّن من جلسته أعلى السارية ،
وحلَّ رباطَ الكيس
نظر في داخله
مدّ يده إلى الدنانير الذهبيّة ،
فأخرج ديناراً ،
وقلّبَه بيده كأنه يروزه
( يختبره ويتعرّفه)
ثم ألقاه أسفل منه ،
فسقط في السفينة ،
فابتدره التاجر
ورفع رأسه إلى حيث يجلس القرد
كان التاجر
متوثّباً مشدودَ الأعصاب
لقد مدّ القرد يدَه إلى الكيس ،
وأخرج ديناراً قلّبه بيده ،
فاستعدّ التاجر لتلقّيه
ليس في الأمر حيلة سوى ذلك ،
لقد ترك دفّة السفينة
ليتفرّغ للالتقاط الدنانير
يا ويح التاجر ،
لقد رمى القرد الدينار في الماء
بين الأمواج ،
ورمى التاجر رأسه على عمود السارية
من الغيظ والقهر
وعاد ينظر بتوسّل ظاهر إلى القرد ،
ولكنْ هذه المرة دون أن يناديه ،
إذ انعقد لسانه ..
فرمى القرد إليه ديناراً ،
فأسرع إلى التقاطه ،
ورمى الدينار الرابع إلى الماء
يا ويحه ،
ما عادت رجلاه تحملانه
سقط على الأرض ،
وعيناه متعلقتان بالقرد وصنيعه
ازدادت سرعة يد القرد ،
واستمر التوزيع العادل في القسمة
دينارٌ يٌرمى على السفينة ،
وآخر يُلقى إلى الماء
وفرغ الكيس ،
ونزل القردُ
أخذ التاجر نصيبَه من ثمن الخمر ،
وأخذ النهر نصيبه من ثمن الماء
الممزوج بالخمر
أليست القسمة صحيحة ،
والقردُ قاضياً عادلاً ،
وحكَماً نزيهاً
؟
وقد نال التاجر نصيبه
من الحزن والألم في الدنيا .
وسينال جزاءَه في الآخرة ناراً تلَظّى ،
لا يصلاها إلا الأشقى
هذا إذا لم يتق الله تعالى ،
ويتـُب ،
ويعفُ الكريمُ عنه.[/size]